
يوم العشرين من تشرين الأول (أكتوبر) 2011، قُتل الزعيم الليبي معمر القذافي. أما كيف قتل بالضبط، فما يزال ذلك ملفوفاً الغموض: بينما قالت الحكومة الليبية المؤقتة في البداية أنه قتل في تبادل لإطلاق النار، أشارت أدلة أخرى إلى شيء آخر. كان آخر تسجيل له أسيراً في شريط فيديو من تصوير هواة، قد عرضه مدمى ومرتعباً، محاطاً بحشد من المقاتلين الثوار، بينما يدفعون به إلى شاحنة. وبعد سنة من ذلك، لم يتمكن تحقيق أجرته منظمة هيومان رايتس ووتش من التوصل إلى نتيجة فيما يتعلق بالظروف الدقيقة لموت القذافي، لكنه اقترح أنه ربما يكون قد أعدم من دون محاكمة.
كانت تلك نهاية محزنة ومروعة، لكن الكثيرين سيزعمون أنها كانت ما استحقه القذافي. كان الرجل قد قاد ليبيا الغنية بالنفط حاكماً مستبداً طوال 42 عاماً تقريباً، ساحقاً كل معارضة بوحشية متكررة، وممولاً الإرهاب الدولي. وعندما اجتاح الربيع العربي ليبيا، رد القذافي بقسوة، واصفاً أعداءه بأنهم "جرذان"، وقتل وجرح الآلاف من أبناء شعبه.
شكل موت القذافي نقطة تحول مفصلية، لكنه لا يمكن وصفها الآن بعد ثلاث سنوات، وعلى نحو مقنع، بأنها كانت نقطة تحول جيدة. في 20 تشرين الأول (أكتوبر) 2014، ما تزال ليبيا غارقة في الفوضى أعمق من أي وقت مضى. وفي هذا الوضع المربك الفوضوي، يتوزع القتال بين القوميين العرب، والإسلاميين، والميليشيات الإقليمية، والمزيد. وفي الفترة الأخيرة، تدخلت مصر والإمارات العربية المتحدة هناك عسكرياً أيضاً، بينما أُجبرت حكومة البلد المنفية والعاجزة إلى حد كبير على عقد اجتماعاتها على متن عبارة بحرية لنقل السيارات.
على خلفية هذا الوضع، من غير المنطقي أن يتساءل المرء عما كان ليحدث لو أن القذافي لم يمت. وقد أثارت الصحفية الإيرلندية المقيمة في ليبيا، ماري فيتزجيرالد، هذا السؤال على تويتر يوم الاثنين الماضي، فكتبت: "ثلاث سنوات قبل هذا اليوم، مات القذافي ميتة شنيعة. ويقول العديد من الليبيين إنهم كانوا ليفضلوا أن يروه وهو يواجه العدالة في قاعة المحكمة".
إن هذا السؤال مهم، ليس لليبيا فقط، وإنما للمنطقة أيضاً، بل وحتى للمفهوم الأوسع للعدالة الدولية. وقد أشار كريستوفر شيفيز، عالم السياسة الرفيع في مؤسسة "راند"، إلى أن مثل هذه النتيجة كانت ممكنة: عندما تدخل حلف الناتو فعلاً في ليبيا، فإنه لم يكن يقصد أن يموت القذافي، وكانت هناك آمال بأن بلداً آخر ربما يكون راغباً في استضافته كمنفي (لم يكن هناك أحد في الواقع).
قبل بضعة أشهر من موت القذافي فقط، كانت المحكمة الجنائية الدولية قد أصدرت مذكرة اعتقال بحقه بسبب جرائم مزعومة ارتكبها ضد الإنسانية، وهو قرار حظي بالإشادة في وقته من جهة جماعات حقوقية، مثل "هيومان رايتس ووتش" ومنظمة العدل الدولية (أمنستي). وقد رفضت الحكومة الليبية تأييد تلك التهم، واصفة المحكمة الجنائية الدولية بأنها "أداة للعالم الغربي، يستخدمها لمحاكمة القادة في العالم الثالث"، واقترح بعض المحللين أن تلك المذكرة ربما تكون قد عززت قرار القذافي التمسك بالسلطة.
في نهاية المطاف، لم يحدث ذلك أي فرق. ويقول شيفيز: "في النهاية، قُتل (القذافي) على يد مواطنيه أنفسهم، وهو ما لم مفاجئاً بالنظر إلى الطريقة التي حكمهم بها".
بالتأكيد، هناك احتمال بأنه لو واجه القذافي محاكمة، سواء في المحكمة الجنائية الدولية أو أي مكان آخر، فإن ليبيا ربما كانت لتنال فرصة لتحقيق السلام والمصالحة بعد النهاية الدموية لنظامه. ربما كان ذلك ليشكل تمريناً ضرورياً في بناء الدولة لبلد عاش أكثر من أربعة عقود في ظل منهج القذافي شديد الشخصانية، وأحياناً غريب الأطوار، في الحكم. وبالنظر إلى الطبيعة المتشظية على نحو لا يصدق لليبيا اليوم، يتساءل البعض عما إذا كانت محاكمة القذافي ستنطوي على احتمال أن تعرض شيئاً لتوحيد القوى اليائسة في البلد. لكن من الصعب الجزم بذلك على وجه اليقين، كما أن هناك نواتج أخرى، مرغوبة بقدر أقل، كان يمكن أن تحدث أيضاً.
كتبت تمارا كوفمان، المديرة والزميلة الرفيعة في مركز سياسات الشرق الأوسط في بروكنغز، في رسالة بالبريد الإلكتروني: "يمكن لمحاكمة رفيعة المستوى في بيئة ما بعد الصراع أن تشكل فرصة لتصفية الحسابات المجتمعية والتعافي، لكنها يمكن أيضاً أن تضيف إلى الشعور بالضيم والاستقطاب، اعتماداً على السياق المحلي، وكذلك على مدى جودة الطريقة التي تتم بها إدارة المحاكمة نفسها".
يشير المراقبون إلى المشكلات التي خالطت محاكمة سيف الدين القذافي، ابن الدكتاتور الراحل. وقد بدأت الحكومة المؤقتة محاكمتها ضد سيف في وقت سابق من هذا العام، لكنها تعرضت للنقد من عدد من الفاعلين الدوليين بسبب الطريقة التي تعاملت بها مع القضية: اتهمت "هيومان رايتس ووتش" الحكومة الليبية بالفشل في تقديم تمثيل قانوني مناسب للمتهمين في القضية، على سبيل المثال.
وبينما اتهمت المحكمة الجنائية الدولية سيف القذافي إلى جانب والده في العام 2011، فإنها لم تستطع إلزام الحكومة الليبية بالسماح لها بالوصول إليه –وهي واحدة فقط من عديد التحديات التي واجهتها شرعية المحكمة الجنائية الدولية في السنوات الأخيرة. وكان جون جونز، محامي سيف الإسلام البريطاني، قد صرح لمجلة تايم في السنة الماضية بالقول: "إن ذلك يؤذيها. إنه يجعل المحكمة الجنائية الدولية تبدو متخاذلة وبلا أنياب".
يقول ريتشارد دالتون، الزميل المشارك في "تشاثام هاوس" في لندن: "بقدر ما هي مرغوبة أخلاقياً، فإن المحاكمة ستكون وسيلة إلهاء مسرحي كبيرة، والتي لن تمنح القوة لأولئك الذين يريدون (نزع سلاح، وتسريح، وإعادة دمج) الميليشيات في وقت مبكر. إنها سوف تمنح بعض الجرأة للآخرين الذين يعتقدون أن النظام القديم يمكن أن يعود، بحيث يجلبون نهاية أسرع للهدوء النسبي الذي ساد الفترة من أواخر العام 2011 وحتى أواسط العام 2013.
في نهاية المطاف، أصبح حال الدولة الليبية اليوم يتعلق بأكثر من مجرد رجل واحد، ويشعر الكثيرون بأن الحكومات الغربية التي كانت حريصة على إخراج القذافي أخفقت في مساعدة ليبيا على الاستقرار بعد موته. ويقول شيفيز: "هل كانت ليبيا لتكون أفضل حالاً اليوم لو أن (القذافي) ما يزال حياً؟ ربما لا. لكن القضية الأساسية تكمن في أن المجتمع الدولي، بعد حملة جوية استمرت سبعة أشهر، أهمل مسألة إعادة البناء في مرحلة ما بعد الصراع".
وأضاف شيفيز: "عندما مات القذافي، كانت لدى ليبيا، وفقاً لمعايير معظم دول ما بعد الصراعات، فرصة جيدة جداً لإحداث انتقال سلس إلى السلام والاستقرار. إن لديها الثروة، وهي قريبة من أوروبا، ولها جيران لهم نفس الوجهات، كما أن سكانها لم ينخرطوا –على عكس البوسنة مثلاً، ضد بعضهم البعض في حرب أهلية ضروس". ويضيف: "هذا هو الأمر بالغ المأسوية في الوضع الماثل اليوم".
*يكتب عن الشؤون الخارجية لصحيفة الواشنطن بوست. أصوله من لندن، ودرس في جامعتي مانشستر وكولمبيا.
